فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{ولقدْ زيّنّا السّماء الدُّنْيا بِمصابِيح وجعلْناها رُجُوما لِلشّياطِينِ}
انتقل من دلائل انتفاء الخلل عن خِلقة السماوات، إلى بيان ما في إحدى السماوات من إتقان الصنع فهو مما شمله عموم الإِتقان في خلق السماوات السبع وذكره من ذِكر بعض أفراد العام كذكر المثال بعد القاعدة الكلية، فدقائق السماء الدنيا أوضح دلالة على إتقان الصنع لكونها نصب أعين المخاطبين، ولأن من بعضها يحصل تخلص إلى التحذير من حيل الشياطين وسوء عواقب أتباعهم.
وتأكيد الخبر بـ (قد) لأنه إلى أنه نتيجة الاستفهام التقريري المؤكد بـ (هل) أختتِ (قد) في الاستفهام.
والكلام على السماء الدنيا ولماذا وصفت بالدنيا وعن الكواكب تقدم في أول سورة الصافات.
وسميت النّجوم هنا مصابيح على التشبيه في حسن المنظر فهو تشبيه بليغ.
وذكر التزيين إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال، أي زيّناها لكم مثل الامتنان في قوله: {ولكم فيها جمال} في سورة النحل (6).
والمقصد: التخلص إلى ذكر رجم الشياطين ليتخلص منه إلى وعيدهم ووعيد متبعيهم.
وعدل عن تعريف (مصابيح) باللام إلى تنكيره لما يفيده التنكير من التعظيم.
والرجوم: جمع رجْم وهو اسْم لما يُرجم به، أي ما يرمي به الرامي من حجر ونحوه تسمية للمفعول بالمصدر مثل الخلْق بمعنى المخلوق في قوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11].
والذي جُعل رُجوما للشياطين هو بعض النجوم التي تبدو مضيئة ثم تلوح منقضّة، وتسمى الشُهُب ومضى القول عليها في سورة الصافات.
وضمير الغائبة في {جعلناها} المتبادر أنه عائد إلى المصابيح، أي أن المصابيح رجوم للشياطين.
ومعنى جعل المصابيح رجوما جار على طريقة إسناد عمل بعض الشيء إلى جميعه مثل إسناد الأعمال إلى القبائل لأن العاملين من أفراد القبيلة كقوله تعالى: {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85] وقول العرب: قتلت هُذيل رضيع بني ليث تمّام بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب.
وجعل بعض المفسرين الضمير المنصوب في {جعلناها} عائد إلى {السماء الدنيا} على تقدير: وجعلنا منها رجوما إما على حذف حرف الجر.
وإمّا على تنزيل المكان الذي صدر منه الرجوم منزلة نفس الرجوم فهو مجاز عقلي ومنه قوله تعالى: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها} في سورة البقرة (66) ولكنها على جعل الضمير المنصوب راجعا إلى القرية وإن لم تذكر في تلك الآية ولكنها ذكرت في آية سورة الأعراف (163) {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} وقصتها هي المشار إليها بقوله: {ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت} [البقرة: 65] فالتقدير: فجعلنا منها، أي من القرية نكالا، وهم القوم الذين قيل لهم {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65].
والشياطين هي التي تسترق السمع فتطردها الشهب كما تقدم في سورة الصافات.
وأصل {أعتدنا} أعددْنا أي هيّأنا، قلبت الدال الأولى تاء لتقارب مخرجيهما ليتأتى الإِدغام طلبا للخفة.
و{السعير}: اسم صيغ على مثال فعيل بمعنى مفعول من: سعر النار، إذا أوقدها وهو لهب النار، أي أعددنا للشياطين عذاب طبقة أشد طبقات النار حرارة وتوقدا فإن جهنم طبقات.
وكان السعير عذابا لشياطين الجن مع كونهم من عنصر النار لأنّ نار جهنم أشد من نار طبعهم، فإذا أصابتهم صارت لهم عذابا.
وتسمية عذابهم {السعير} دون النار، أو جهنم مراد لهذا المعنى ومثله قوله تعالى في عذاب الجن {ومن يزغ منهم عن أمرنا نُذقه من عذاب السعير} [سبأ: 12] وقال: {إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} [فاطر: 6] يعني الشيطان.
ومعنى الإِعداد يحتمل أنه إعداد تقدير وإيجاد فلا يقتضي أن تكون جهنم مخلوقة قبل يوم القيامة ويحتمل أنه إعداد استعمال، فتكون جهنم مخلوقة حين نزول الآية وقد اختلف علماؤنا في أن النار موجودة أو توجد يوم الجزاء إذ لا دليل في الكتاب والسنة على أحد الاحتمالين وإنما دعاهم إلى فرض هذه المسألة تأويل بعض الآيات والأحاديث.
{ولِلّذِين كفرُوا بِربِّهِمْ عذابُ جهنّم وبِئْس الْمصِيرُ (6)}
هذا تتميم لئلا يتوهم أن العذاب أُعد للشياطين خاصة، والمعنى: ولجميع الذين كفروا بالله عذاب جهنم فالمراد عامة المشركين ولأجل ما في الجملة من زيادة الفائدة غايرت الجملة التي قبلها فلذلك عطفت عليها.
وتقديم المجرور للاهتمام بتعلقه بالمسند إليه والمبادرة به.
وجملة {وبئس المصير} حال أو معترضة لإِنشاء الذم وحذف المخصوص بالذم لدلالة ما قبل {بئس} عليه.
والتقدير: وبئس المصير عذابُ جهنم.
والمعنى: بئست جهنم مصيرا للذين كفروا.
{إِذا أُلْقُوا فِيها سمِعُوا لها شهِيقا وهِي تفُورُ (7)}
الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان ذم مصيرهم في جهنم، أي من جملة مذام مصيرهم مذمة ما يسمعونه فيها من أصوات مؤلمة مخيفة.
و{إذا} ظرف متعلق بـ {سمعوا} يدل على الاقتران بين زمن الإِلقاء وزمن سماع الشهيق.
والشهيق: تردد الأنفاس في الصدر لا تستطيع الصعود لبُكاء ونحوه أطلق على صوت التهاب نار جهنم الشهيق تفظيعا له لأن قوله: {سمعوا لها} يقتضي أن الشهيق شهيقها لأن أصل اللام أن تكون لشبه الملك.
وجملة {وهي تفور} حال من ضمير {فيها} وتفور: تغلي وترتفع ألسنة لهيبها.
و {الغيظ} أشد الغضب.
وقوله: {تكاد تميز من الغيظ} خبر ثان عن ضمير {وهي}، مثلت حالة فورانها وتصاعد ألسنة لهيبها ورطمها ما فيها والتهام من يُلقون إليها، بحال مغتاظ شديد الغيظ لا يترك شيئا مما غاظه إلاّ سلط عليه ما يستطيع من الإِضرار.
واستعمل المركب الدال على الهيئة المشبه بها مع مرادفاته كقولهم: يكاد فلان يتميز غيظا ويتقصف غضبا، أي يكاد تتفرق أجزاؤه فيتميز بعضها عن بعض وهذا من التمثيلية المكنية وقد وضحناها في تفسير قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة البقرة (5).
ونظير هذه الاستعارة قوله تعالى: {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ} في سورة الكهف (77) إذ مثل الجدار بشخص له إرادة.
و{تميّز} أصله تتميز، أي تنفصل، أي تتجزأ أجزاء تخييلا لشدة الاضطراب بأن أجزاءها قاربت أن تتقطع، وهذا كقولهم: غضب فلان فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء.
{تكادُ تميّزُ مِن الْغيْظِ كُلّما أُلْقِي فِيها فوْجٌ سألهُمْ خزنتُها ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ (8)}
أُتبع وصف ما يجده أهل النار عند إلقائهم فيها من فظائع أهوالها بوصف ما يتلقاهم به خزنة النار.
فالجملة استئناف بياني أثاره وصف النار عند إلقاء أهل النار فيها إذ يتساءل السامع عن سبب وقوع أهل النار فيها فجاء بيانه بأنه تكذيبهم رسل الله الذين أرسلوا إليهم، مع ما انضمّ إلى ذلك من وصف ندامة أهل النار على ما فرط منهم من تكذيب رسل الله وعلى إهمالهم النظر في دعوة الرسل والتدبر فيما جاءوهم به.
و{كُلّما أُلْقِى فِيها فوْجٌ سألهُمْ خزنتُهآ ألمْ يأْتِكُمْ نذِيرٌ قالواْ بلى قدْ جاءنا} مركب من (كل) اسم دال على الشمول ومن (ما) الظرفية المصدرية وهي حرف يؤوّل مع الفعل الذي بعده بمصدره.
والتقدير: في كل وقت إلقاء فوج يسألهم خزنتُها الفوج.
وباتصال (كل) بحرف (ما) المصدرية الظرفية اكتسب التركيب معنى الشرط وشابه أدوات الشرط في الاحتياج إلى جملتين مُرتبة إحداهما على الأخرى.
وجيء بفعلى {أُلقي} و{سألهم} ماضيين لأن أكثر ما يقع الفعل بعد {كلما} أن يكون بصيغة المضي لأنها لما شابهت الشرط استوى الماضي والمضارع معها لظهور أنه للزمن المستقبل فأوثر فعل المضي لأنه أخف.
والفوج: الجماعة أي جماعة ممن حق عليهم الخلود، وتقدم عند قوله تعالى: {ويوم نحشر من كل أمة فوجا} في سورة النمل (83).
وجيء بالضمائر العائدة إلى الفوج ضمائر جمع في قوله: {سألهم} إلخ.
لتأويل الفوج بجماعة أفراده كما في قوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9].
وخزنة النار: الملائكة الموكل إليهم أمر جهنم وهو جمع خازن للموكل بالحفظ وأصل الخازن: الذي يخزن شيئا، أي يحفظه في مكان حصين، فإطلاقه على الموكلين مجاز مرسل.
وجملة {ألم يأتكم نذير} بيان لجملة {سألهم} كقوله: {فوسوس إليه الشيطان قال يا ءادم هل أدلك على شجرة الخلد} [طه: 120].
والاستفهام في {ألم يأتكم نذير} للتوبيخ والتنديم ليزيدهم حسرة.
والنذير: المنذر، أي رسول منذر بعقاب الله وهو مصوغ على غير قياس كما صيغ بمعنى المسمع السميع في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن رياحنة الداعي السميع

والمراد أفواج أهل النار من جميع الأمم التي أرسلت إليهم الرسل فتكون جملة: {كلما أُلقي فيها فوج} إلخ بمعنى التذييل.
وجملة: {قالوا بلى قد جاءنا نذير} معترضة بين كلام خزنة جهنم اعتراضا يشير إلى أن الفوج قاطع كلام الخزنة بتعجيل الاعتراف بما وبّخوهم عليه وذلك من شدة الخوف.
وفصلت الجملة لوجهين لأنها اعتراض، ولوقوعها في سياق المحاورة كما تقدم غير مرة كقوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة البقرة (30).
وكان جوابهم جواب المتحسر المتندم، فابتدأوا الجواب دفعة بحرف {بلى} المفيد نقيض النفي في الاستفهام، فهو مفيد معنى: جاءنا نذير.
ولذلك كان قولهم: {قد جاءنا نذير} موكدا لما دلت عليه {بلى}، وهو من تكرير الكلام عند التحسر، مع زيادة التحقيق بـ {قد}، وذلك التأكيد هو مناط الندامة والاعتراف بالخطأ.
وجملة: {إن أنتم إلاّ في ضلال كبير} الأظهر أنها بقية كلام خزنة جهنم فصل بينها وبين ما سبقها من كلامهم اعتراضُ جوابِ الفوج الموجه إليهم الاستفهام التوبيخي كما ذكرناه آنفا، ويؤيد هذا إعادة فعل القول في حكاية بقية كلام الفوج في قوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع} [الملك: 10] إلخ لانقطاعه بالاعتراض الواقع خلال حكايته.
ويجوز أن تكون جملة {إن أنتم إلا في ضلال كبير} من تمام كلام كل فوج لنذيرهم.
وأتي بضمير جمع المخاطبين مع أن لكل قوم رسولا واحدا في الغالب باستثناء موسى وهارون وباستثناء رسل أصحاب القرية المذكورة في سورة يس؛ إما على اعتبار الحكاية بالمعنى بأن جُمع كلام جميع الأفواج في عبارة واحدة فجيء بضمير الجمع والمراد التوزيع على الأفواج، أي قال جميع الأفواج: {بلى قد جاءنا نذير} إلى قوله: {إن أنتم إلا في ضلال كبير}، على طريقة المثال المشهور: (ركِب القوم دوابهم)، وإما على إرادة شمول الضمير للنذير وأتباعِه الذين يؤمنون بما جاء به.
وعموم {شيء} في قوله: {ما نزّل الله من شيء} المرادِ منه شيء من التنزيل، يدل على أنهم كانوا يحيلون أن يُنزل الله وحيا على بشر، وهذه شنشنة أهل الكفر قال تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} وقد تقدم في آخر [الأنعام: 91].
ووصف الضلال بـ {كبير} معناه شديد بالغ غاية ما يبلغ إليه جنسه حتى كأنه جسم كبير.
ومعنى القصر المستفادِ من النفي والاستثناء في {إن أنتم إلا في ضلال كبير} قصرُ قلب، أي ما حالكم التي أنتم متلبسون بها إلاّ الضلال، وليس الوحي الإِلهي والهدى كما تزعمون.
والظرفية مجازية لتشبيههم تمحُّضهم للضلال بإحاطة الظرف بالمظروف.
{وقالوا لوْ كُنّا نسْمعُ أوْ نعْقِلُ ما كُنّا فِي أصْحابِ السّعِيرِ (10)}
أعيد فعل القول للإِشارة إلى أن هذا كلام آخر غير الذي وقع جوابا عن سؤال خزنة جهنم وإنما هذا قول قالوه في مجامعهم في النار تحسرا وتندما، أي وقال بعضهم لبعض في النار فهو من قبيل قوله تعالى: {حتى إذا ادّاركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا} [الأعراف: 38] إلخ.
لتأكيد الإِخبار على حسب الوجهين المتقدمين في موقع جملة {إن أنتم إلاّ في ضلال كبير} [الملك: 9].
وذكروا ما يدل على انتفاء السمع والعقل عنهم في الدنيا، وهم يريدون سمعا خاصا وعقلا خاصا، فانتفاء السمع بإعراضهم عن تلقي دعوة الرسل مثل ما حكى الله عن المشركين {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن} [فصلت: 26] وانتفاء العقل بترك التدبر في آيات الرسل ودلائل صدقهم فيما يدْعون إليه.
ولا شك في أن أقل الناس عقلا المشركون لأنهم طرحوا ما هو سبب نجاتهم لغير معارض يعارضه في دينهم، إذ ليس في دين أهل الشرك وعيد على ما يخالف الشرك من معتقدات، ولا على ما يخالف أعمال أهله من الأعمال، فكان حكم العقل قاضيا بأن يتلقوا ما يدعوهم إليه الرسل من الإِنذار بالامتثال إذ لا معارض له في دينهم لولا الإلف والتكبر بخلاف حال أهل الأديان أتباع الرسل الذين كانوا على دين فهم يخشون إن أهملوه أن لا يغني عنهم الدين الجديد شيئا فكانوا إلى المعذرة أقرب لولا أن الأدلة بعضها أقوى من بعض.
وذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى: {أم تأمرهم أحلامهم بهذا} [سورة الطور: 32] عن كتاب الحكيم الترمذي أنه أخرج حديثا «أن رجلا قال: يا رسول الله ما أعقل فلانا النصراني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مهْ، إن الكافر لا عقل له أما سمعت قول الله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير}» قال وفي حديث ابن عمر فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «مهْ إن العاقل من يعمل بطاعة الله» ولم أقف عليه فيما رأيت من كتب التفسير ولم يذكره السيوطي في التفسير بالمأثور في سورة الطور ولا في سورة الملك.
ويؤخذ من هذه الآية أن قوام الصلاح في حسن التلقي وحسن النظر وأن الأثر والنظر، أي القياس هما أصلا الهدى، ومن العجيب ما ذكره صاحب (الكشاف): أن من المفسرين من قال: إن المراد من الآية: لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي.
ولم أقف على تعيين من فسر الآية بهذا ولا أحسبه إلاّ من قبيل الاسترواح.
و{أو} للتقسيم وهو تقسيم باعتبار نوعي الأحوال التي تقتضي حسن الاستماع تارة إذا ألقي إليها إرشاد، وحسن التفهم والنظر تارة إذا دعيت إلى النظر من داع غير أنفسها، أو من دواعي أنفسها، قال تعالى: {فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب} [الزمر: 1718].
ووجه تقديم السمع على العقل أن العقل بمنزلة الكليّ والسمع بمنزلة الجُزئي ورعيا للترتيب الطبيعي لأن سمع دعوة النذير هو أول ما يتلقاه المنذرون، ثم يُعمِلون عقولهم في التدبر فيها.
{فاعْترفُوا بِذنْبِهِمْ فسُحْقا لِأصْحابِ السّعِيرِ (11)}
الفاء الأولى فصيحة، والتقدير: إذ قالوا بذلك فقد تبين أنهم اعترفوا هنالك بذنبهم، أي فهم محقوقون بما هم فيه من العذاب.
والسُحق: اسم مصدر معناه البعد، وهو هنا نائب عن الإسحاق لأنه دعاء بالإِبعاد فهو مفعول مطلق نائب عن فعله، أي أسحقهم الله إسحاقا، ويجوز أن يراد من هذا الدعاء التعجيب من حالهم كما يقال: قاتله الله، وويل له، في مقام التعجب.
والفاء الثانية للتسبب، أي فهم جديرون بالدعاء عليهم بالإبعاد أو جديرون بالتعجيب من بُعدهم عن الحق، أو عن رحمة الله تعالى.
ويحتمل أيضا أن يقال لهم يوم الحساب عقب اعترافهم، تنديما يزيدهم ألما في نفوسهم فوق ألم الحريق في جلودهم.
واللام الداخلة على (سحقا) لام التقوية إن جعل (سحقا) دعاء عليهم بالإِبعاد لأن المصدر فرع في العمل في الفعل، ويجوز أن يكون اللام لام التبيين لآياته تعلق العامل بمعموله كقولهم: شكرا لك، فكل من (سحقا) واللام المتعلقة به مستعمل في معنييه.
و{لأصحاب السعير} يعمّ المخاطبين بالقرآن وغيرهم فكان هذا الدعاء بمنزلة التذييل لما فيه من العموم تبعا للجمل التي قبله.
وقرأ الجمهور {فسحقا} بسكون الحاء.
وقرأه الكسائي وأبو جعفر بضم الحاء وهو لغة فيه وذلك لإتباع ضمة السين. اهـ.